الإعلام وعالم الجريمة – القسم الأول

يُنظر إلى الإعلام بوصفه أحد الفواعل الأساسية في تشكيل إدراك الأفراد تجاه القضايا العامة، لا سيما تلك المرتبطة بالجريمة. فهو ليس مجرد ناقل للأحداث، بل منتج للمعاني وصانع للرموز التي تحدّد كيف يفهم المجتمع طبيعة الجريمة، وأسبابها، وطرق معالجتها. وقد أشار عالم الاجتماع مارشال ماكلوهان إلى أنّ “وسيلة الإعلام هي الرسالة”، ما يعني أنّ طريقة التناول الإعلامي للجريمة لا تقل أثرًا عن الجريمة ذاتها في وعي الجمهور.

الإعلام كمرآة عاكسة للجريمة

تقوم وسائل الإعلام بدور إخباري تقليدي يتمثل في نقل وقائع الجريمة للرأي العام. إلا أنّ الدراسات تشير إلى أنّ التغطية الإعلامية غالبًا ما تتسم بالانتقائية والمبالغة. فقد بيّنت دراسة أجراها تشيرنوف (Chermak, 1995) أنّ التغطية الصحفية تميل إلى التركيز على الجرائم العنيفة أكثر من غيرها، رغم أن نسبتها الإحصائية أقل مقارنة بالجرائم الاقتصادية. هذا الخلل في التمثيل يعزز ما يُعرف بـ “خوف الجريمة” (Fear of Crime) لدى الجمهور.

الإعلام وصناعة الرأي العام

طريقة صياغة الخبر الجنائي تؤثر مباشرة في تكوين الرأي العام. فبحسب نظرية “صياغة الأطر الإعلامية” (Framing Theory)، فإن اختيار المفردات والصور يحدد اتجاه المتلقي نحو التعاطف مع الضحية أو شيطنة المجرم.

في الولايات المتحدة، بيّنت دراسة Dowler (2003) أنّ التعرض الكثيف لبرامج الجريمة التلفزيونية يزيد من تأييد الجمهور لسياسات العقاب الصارمة.

الإعلام والجريمة المنظمة

تشكل الجريمة المنظمة تحديًا خاصًا أمام الإعلام. من جهة، تمكّنت الصحافة الاستقصائية من كشف شبكات الفساد والاتجار غير المشروع، كما في تحقيقات “باناما بيبرز” (2016) التي عرّت شبكات غسل الأموال العابرة للحدود. ومن جهة أخرى، قد تستخدم العصابات الإعلام كأداة تضليل لتبييض صورتها أو تمرير رسائل تهديد ضمنية. هذه الازدواجية تجعل العلاقة بين الإعلام والجريمة المنظمة علاقة محفوفة بالمخاطر، خصوصًا في الدول ذات الحماية المحدودة للصحفيين.

التحديات الأخلاقية والمهنية

رغم أهمية الإعلام في مكافحة الجريمة، إلا أنّ هناك تحديات أخلاقية لا يمكن إغفالها:

  • الخصوصية: نشر صور الضحايا أو تفاصيل حياتهم الخاصة قد يشكل انتهاكًا للحقوق الإنسانية.
  • التأثير على العدالة: تغطية بعض الجرائم بشكل مفرط قد تؤثر على حيادية القضاة أو المحلفين.
  • الإثارة مقابل الموضوعية: الإفراط في عرض مشاهد العنف يؤدي إلى “تطبيع الجريمة” وجعلها مألوفة في ذهن الجمهور.

الجريمة المقلَّدة (Copycat Crime)

أحد أبرز مظاهر التأثير المباشر للإعلام في عالم الجريمة يتمثل في ما يُعرف بـ “الجريمة المقلَّدة”، حيث يقوم بعض الأفراد بارتكاب جرائم مشابهة لما شاهدوه في نشرات الأخبار أو الأفلام أو حتى ألعاب الفيديو. وقد أشارت دراسات علم الجريمة، مثل دراسة Surette (2015)، إلى أنّ التغطية الإعلامية المفرطة والمليئة بالتفاصيل حول أسلوب تنفيذ الجرائم قد تلهم بعض الأشخاص على تقليدها، خاصةً من فئة المراهقين أو ذوي الاضطرابات النفسية.

على سبيل المثال، لوحظت زيادة في محاولات إطلاق النار في المدارس الأميركية بعد التغطية الواسعة لمجزرة “كولومباين” عام 1999.

وفي بعض السياقات العربية، أدّت التغطية الإعلامية لجرائم انتحار شبابية بأسلوب محدد إلى محاولات تقليد مشابهة، مما دفع بعض وسائل الإعلام لاحقًا إلى اعتماد سياسات أكثر حذرًا في النشر.

الخيال الإعلامي وصناعة صورة الجريمة

لا يقتصر تأثير الإعلام على الواقع المباشر، بل يمتد إلى بناء “خيال اجتماعي” حول الجريمة من خلال الأفلام، المسلسلات، والروايات البوليسية. هذا الخيال لا يعكس دائمًا الواقع الإحصائي للجريمة، بل يقدّم نسخة درامية مشحونة بالإثارة.

المسلسلات الأميركية مثل CSI ساهمت في خلق ما يُعرف بـ “تأثير CSI” (CSI Effect)، حيث بات بعض jurors (المحلفين) يطالبون بأدلة جنائية عالية الدقة في المحاكم الحقيقية، تأثرًا بما يرونه على الشاشة.

في المقابل، يمكن لهذا الخيال الإعلامي أن يلعب دورًا تثقيفيًا إيجابيًا من خلال نشر ثقافة قانونية وأمنية مبسطة، كما في بعض الأعمال الدرامية العربية التي سلطت الضوء على قضايا المخدرات أو الفساد.

على سبيل المثال، قدّم المسلسل المصري “اختفاء” (2018) معالجة درامية لقضايا الاتجار غير المشروع وعلاقة السلطة بالجريمة، مما أثار نقاشًا مجتمعيًا واسعًا حول خطورة شبكات الفساد.

كما جسّد مسلسل “كلبش” (2017 – 2019) صورة رجل الأمن في مواجهة العصابات، وهو ما ساهم في نشر وعي جماهيري حول أساليب الجريمة المنظمة وآليات مواجهتها.

المراجع الأجنبية
McLuhan, M. (1964). Understanding Media: The Extensions of Man. New York: McGraw-Hill.
– المرجع الأساسي لفكرة “الوسيلة هي الرسالة”.

Chermak, S. M. (1995). Victims in the News: Crime and the American News Media. Boulder, CO: Westview Press.
– الدراسة التي تناولت انتقائية التغطية الإعلامية للجرائم العنيفة.

Dowler, K. (2003). “Media Consumption and Public Attitudes Toward Crime and Justice: The Relationship Between Fear of Crime, Punitive Attitudes, and Perceived Police Effectiveness.” Journal of Criminal Justice, 31(5), 455–467.
– دراسة حول تأثير برامج الجريمة على مواقف الجمهور تجاه العقاب.

Surette, R. (2015). Media, Crime, and Criminal Justice: Images, Realities, and Policies. Cengage Learning.
– مرجع أساسي حول “الجريمة المقلدة” وتأثير الإعلام.

Coleman, R. (2004). Reclaiming the Streets: Surveillance, Social Control and the City. Willan Publishing.
– حول العلاقة بين الإعلام والسياسات العقابية.

Fishman, M., & Cavender, G. (1998). Entertaining Crime: Television Reality Programs. Aldine de Gruyter.
– يناقش العلاقة بين البرامج التلفزيونية وصناعة صورة الجريمة.

Machura, S., & Ulbrich, S. (2001). “Law in Film: Globalizing the Hollywood Courtroom Drama.” Journal of Law and Society, 28(1), 117–132.
– حول تأثير الدراما القانونية على إدراك الجمهور للقضاء (تأثير CSI).

International Consortium of Investigative Journalists (ICIJ). (2016). The Panama Papers.
– المصدر الأصلي للتحقيقات الصحفية حول غسل الأموال والجريمة المنظمة.

المراجع العربية
عبد الله، عبد العزيز (2019). الإعلام والجريمة: قراءة في الاتجاهات النظرية والدراسات التطبيقية. القاهرة: دار الفكر العربي.

كمال، محمود (2018). الإعلام والأمن: إشكاليات التغطية وتأثيراتها المجتمعية. عمان: دار المسيرة.

العساف، فهد (2020). “الإعلام وتأثيره في الجريمة المقلدة: دراسة في علم النفس الجنائي.” مجلة دراسات أمنية واجتماعية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية.

أبو غزالة، محمد (2017). الخيال الدرامي وصناعة صورة الجريمة في المجتمعات العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

مقالة علميّة – الإعلام وعالم الجريمة (القسم الأول)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تمرير للأعلى